كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وحكى محمد بن مسلمة في (المبسوط) عن زيد بن أسلم قال: إن قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ} [9: 73] نسخها ما كان قبلها، وقال بعض مشايخنا: علل القائل: هذه قسمة ما أريد وجه الله، وقوله: اعدل، لم يفهم النبي صلى الله عليه وسلم منه الطعن عليه، والتهمة له، وإنما رآها من وجه الغلط في الرأي، وأمور الدنيا، والاجتهاد، وفي مصالح أهلها، فلم ير ذلك سبا، ورأى أنه من الأذى الّذي كان له العفو عنه، والصبر عليه، فلذلك لم يعاقبه.
وكذلك يقال في اليهود إذا قالوا: السام عليكم، ليس في صريح سبّ ولا دعاء إلا بما لابد منه من الموت الّذي لابد من لحاقه جميع البشر. وقيل: بل المراد، تسأمون، دينكم والسآمة الملال، وهذا دعاء على سآمة الدين، ليس بصريح سب، وبهذا ترجم البخاري على هذا الحديث: باب إذا عرّض الذميّ أو غيره بسب النبي صلى الله عليه وسلّم.
وقال بعض علمائنا: ليس هذا بتعرض بالسب، وإنما هو تعرض بالأذى.
قال القاضي عياض: الأذى والسب في حقه صلّى الله عليه وسلّم سواء، قال القاضي أبو محمد بن نصر مجيبا عن هذا الحديث ببعض ما تقدم، ثم قال ولم يذكر في الحديث هل كان هذا اليهودي من أهل العهد والذمة أو الحرب، ولا يترك موجب الأدلة المحتملة كله، والأظهر من هذه الوجوه مقصد الاستئلاف والمداراة على الدين، لعلهم يؤمنون.
ولذلك ترجم البخاري على حديث القسمة والخوارج باب: من ترك قتال الخوارج للتألف ولئلا ينفر الناس عنه، وقد صبر لهم صلّى الله عليه وسلم على سحره، وسمه، وهو أعظم من سبه، إلى أن نصره الله تعالى عليهم وأذن له في قتل من عينه منهم، وإنزالهم من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب، وكتب على من شاء منهم الجلاء، وأخرجهم من ديارهم، وخرب بيوتهم بأيديهم، وأيدي المؤمنين وكاشفهم بالسب فقال: يا إخوة القردة والخنازير، وحكم فيهم سيوف المسلمين، وأجلاهم من جوارهم، فإن قتله فقد جاء في الحديث الصحيح عن عائشة رضى الله تبارك وتعالى عنها- أنه صلّى الله عليه وسلّم ما انتقم لنفسه في شيء يؤثر إليه قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم للَّه.
فاعلم أن هذه لا تقتضي أنه لم ينتقم ممن سبه أو آذاه وكذبه، وأن هذه من حرمات الله التي انتقم لها، وإنما يكون ما لا ينتقم له فيما تعلق بسوء أدب أو معاملة من القول والفعل، بالنفس والمال، مما لم يقصد فاعله به أذاه، ولكن مما جبلت عليه الأعراب من الجفاء، والجهل، أو جبل عليه البشر من السفه، كجبذ الأعرابي بإزاره حتى أثر في عنقه، وكرفع صوت الآخر عنده، وكجحد الأعرابي في شرائه منه فرسه التي شهد فيها خزيمة بن ثابت وكما كان من تظاهر زوجيه عليه، وأشباه هذا مما يحسن الصفح عنه، أو يكون هذا مما أذاه به كافر، وجاء بعد ذلك إسلامه كعفوه عن اليهودي الّذي سحره، وعن اليهودية التي سمته، وعن الأعرابيّ الّذي أراد قتله.
الوجه الثاني: لاحق به في البيان والجلاء، وهو أن يكون القائل، لما قال في جهته صلّى الله عليه وسلّم غير قاصد للسب والإزراء، ولا معتقد له، ولكنه تكلم في جهته صلّى الله عليه وسلّم بكلمة الكفر من لعنه، أو سبه، أو تكذيبه أو إضافة ما لا يجوز عليه، أو نفى ما يجب له مما هو في حقه صلّى الله عليه وسلّم نقيصه، مثل أن ينسب إليه إتيان كبيرة أو مداهنة في تبليغ الرسالة، أو في حكم بين الناس، أو بعض من مرتبته، أو شرف نسبه، وفور علمه، أو يكذب بما استمر من أمور أخبر بها صلّى الله عليه وسلّم وتواتر الخبر بها عنه قصد لرد خبره أو يأتى نسقه من القول، وقبيح من الكلام ونوع من السب في جهته، وإن ظهر بدليل حاله أنه لم يتعمد ولم يقصد سبه أو لجهالة جملته على ما قاله لضجر أو سكر اضطره إليه، أو قلة مراقبة، وضبط للسانه وعجرفة وتهور في كلامه، فحكم هذا الوجه حكم الوجه الأول: القتل دون تلعثم، إذ لا يعذر أحد في الكفر بالجهالة، ولا بدعوى زلل اللسان ولا بشيء مما ذكرناه إذا كان عقله في فطرته سليما {إِلَّا من أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ} [16: 106] وبهذا أفتى الأندلسيون على ابن حاتم في نفيه الزهد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الّذي قدمناه.
وأفتى أبو الحسن القابسي في من شتم النبي صلّى الله عليه وسلّم في سكره: يقتل لأنه يظن به أنه يعتقد هذا ويفعله في صحوة، وأيضا فإنه حد لا يسقطه السكر كالقذف، والقتل وسائر الحدود لأنه أدخله على نفسه، لأن من شرب الخمر على علم من زوال عقله بها وإتيان ما ينكر فهو كالعامد لما يكون بسبه، وعلى هذا ألزمناه الطلاق، والعتاق، والقصاص، والحدود، لا يعترض على هذا بحديث حمزة- رضي الله تبارك وتعالى عنه- وقوله للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: هل أنتم إلا عبيد لأبي قال فعرف النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه ثمل فانصرف، لأن الخمر كانت حينئذ غير محرمه، فلم يكن في جناياتها إثم، وكان حكم ما يحدث عنها معفوا عنه، كما يحدث من النوم، وشرب الدواء المأمون.
الوجه الثالث: أن يقصد إلى تكذيبه فيما قاله، وأتى به، أو ينفي نبوته أو رسالته، أو وجوده، أو يكفر به، انتقل بقوله ذلك إلى دين آخر غير ملته أم لا، فهذا كافر بإجماع يجب قتله، ثم ينظر، فإن كان مصرحا بذلك كان حكمه أشبه بحكم المرتد، وقوى الخلاف في استتابته وعلى القول الآخر لا يسقط القتل عنه بتوبته لحق النبي صلّى الله عليه وسلّم إن كان ذكره بنقيصة فيما قاله من كذب أو غيرة، وإن كان متسترا بذلك فحكمه حكم الزنديق لا يسقط قتله بالتوبة عندنا كما سنبينه.
قال ابن القاسم: دعا إلى ذلك: سرا أو جهرا. وقال أصبغ: وهو كالمرتد لأنه قد كفر بكتاب الله مع الفرية على الله، وقال أشهب في يهودي تنبأ أو زعم أنه أرسل إلى الناس، أو قال: بعد نبيكم نبي، إنه يستتاب إن كان معلنا بذلك فإن تاب وإلا قتل، وذلك لأنه مكذب للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فهو كافر جاحد، وقال: من كذب النبي صلّى الله عليه وسلّم كان حكمه عند الأمة القتل، وقال أحمد بن أبى سليمان صاحب سحنون: من قال إن النبي صلّى الله عليه وسلّم أسود، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن صلّى الله عليه وسلّم بأسود. وقال نحوه: أبو عثمان الحداد: قال: لو قتل لأن هذا نفى، وقال حبيب بن ربيع: تبديل صفته ومواضعه كفر والمظهر له كافر، وفيه الاستتابة الوجه الرابع: أن يأتى من الكلام بمجمل أو بلفظ من القول بمشكل يمكن حمله على النبي صلّى الله عليه وسلّم أو غيره، أو يتردد في المراد به من سلامته من المكروه أو شره. فهاهنا متردد النظر وحيرة العبر ومظنة اختلاف المجتهدين ووقعه استبراء المقلدين ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينه، فمنهم من غلب حرمة النبي صلّى الله عليه وسلّم وحمى عرضه، فجسر على القتل، ومنهم من عظم حرمة الدم ودرء الحد بالشبهة لاحتمال القول، وقد اختلف أئمتنا في رجل أغضبه غريمه، فقال له: صل على النبي محمد فقال له الطالب: لا صلّى الله على من صلّى عليه، فقيل لسحنون: هل هو كمن شتم النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ أو شتم الملائكة الذين يصلون عليه؟ قال: لا، إذا كان على ما وصفت من الغضب لأنه لم يكن مضمرا الشتم.
ذهب الحارث بن مسكين القاضي وغيره في مثل هذا إلى القتل، وتوقف أبو الحسن القابسي في قتل رجل قال: كل صاحب فندق قرنان ولو كان نبيا مرسلا! فأمر بشده بالقيود والتضييق عليه حتى يستفهم بالبينة من جملة ألفاظه وما يدل على مقصده، هل أراد أصحاب الفنادق الآن! فمعلوم أنه ليس فيهم نبي مرسل، فيكون أمره أخف، قال: ولكن ظاهر لفظه العموم لكل صاحب فندق من المتقدمين والمتأخرين، وقد كان فيمن تقدم من الأنبياء والرسل من اكتسب المال.
قال: ودم المسلم لا يقدم عليه إلا بأمر بين، وما ترد إليه التأويلات لابد من إمعان النظر فيه، هذا معنى كلامه.
وحكى عن محمد بن أبي زيد فيمن قال: لعن الله العرب، ولعن الله بني إسرائيل، ولعن الله بني آدم وذكر أنه لم يرد الأنبياء وإنما أراد الظالمين منهم، أن عليه الأدب بقدر اجتهاد السلطان، وكذلك أفتى فيمن قال: لعن الله من حرم المسكر وقال: لم أعلم من حرمه وفيمن لعن، حديث لا يبيع حاضر لباد، ولعن من جاء به أنه إن كان يعذر بالجهل وعدم معرفة السنن، فعليه الأدب الوجيع وذلك أن هذا لم يقصد بظاهر حاله سب الله، ولا سب رسوله، وإنما لعن من حرمه من الناس، على نحو فتوى سحنون وأصحابه في المسألة المتقدمة، ومثل هذا يجري في كلام سفهاء الناس، من قول بعضهم لبعض: يا ابن ألف خنزيرة، وابن مائة كلب، وشبهه من هجر القول، ولا شك أنه يدخل في مثل هذا العدد من آبائه وأجداده جماعة من الأنبياء، ولعل بعض هذا العدد منقطع إلى آدم عليه السلام فينبغي الزجر عنه ويتبين ما جهل قائله منه، وشدة الأدب فيه، ولو علم أنه قصد سب من في آبائه من الأنبياء على علم لقتل.
وقد يضيق القول في نحو هذا لو قال لرجل هاشمي: لعن الله بنى هاشم، وقال أردت الظالمين منهم، أو قال لرجل من ذرية النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم تكن قرينة في المسألتين تقتضي تخصيص بعض آبائه، وإخراج النبي صلّى الله عليه وسلّم ممن سبه منهم، وقد كان اختلف شيوخنا فيمن قال لشاهد شهد عليه بشيء ثم قال: تتهمني، فقال له الآخر: الأنبياء يتهمون فكيف أنت؟ وكان شيخنا أبو إسحاق بن جعفر يرى قتله لبشاعة ظاهر اللفظ، وكان القاضي أبو محمد بن منصور يتوقف عن القتل لاحتمال اللفظ عنده، أن يكون خبرا عمن اتهمهم من الكفار، وأفتى فيها قاضي قرطبة أبو عبد الله بن الحاج بنحو من هذا، وشدد القاضي أبو محمد تصفيده وأطال سجنه، ثم استخلفه بعد على تكذيب ما شهد به عليه أو دخل في شهادة بعض من شهد عليه، وشاهدت شيخنا القاضي أبا عبد الله بن عيسى أيام قضائه، أتى برجل هاتر رجلا اسمه محمد، ثم قصد إلى كلب فضربه برجله، وقال له: قم يا محمد، فأنكر الرجل أن يكون قال ذلك وشهد عليه، ومن ثم أطلقه لفيف من الناس، فأمر به إلى السجن وتقصى عن حاله وهل يصحب من يستراب بدينه؟ فلما لم يجد ما يقوى الريبة باعتقاده، ضربه بالسوط وأطلقه.
الوجه الخامس: أن لا يقصد بقصد ولا يذكر عيبا ولا سبا ولكنه ينزع بذكر بعض أوصافه أو يستشهد ببعض أحواله صلّى الله عليه وسلّم الجائزة عليه في الدنيا على طريق ضرب المثل، والحجة لنفسه أو لغيره، أو على التشبه به، أو عند هضيمة نالته، أو لغضاضة لحقته، لنفسه أو لغيره، أو على سبيل التمثيل، وعدم التوقير لنبيه صلّى الله عليه وسلّم أو قصد الهزل، والتنذير بقوله كقول القائل: إن قيل في السوء فقد قيل في النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو إن كذبت فقد كذب الأنبياء أو إن أذنبت فقد أذنبوا وأنا أسلم من ألسنة الناس لم يسلم منهم أنبياء الله ورسوله، أو قد صبرت {كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ من الرُّسُلِ} 46: 35، أو كصبر أيوب، أو قد صبر نبي الله عن عداه، وحلم عليّ أكثر مما صبرت، وكقول المتنبي:
أنا في أمة تداركها الله ** غريب كصالح في ثمود

ونحوه من أشعار المتعجرفين في القول المتساهلين في الكلام، كقول المعري:
كنت موسى وافته بنت شعيب ** غير أن ليس فيكما فقير

على أن آخر البيت شديد، وداخل في باب الإزراء والتحقير بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وتفضيل حال غيره عليه.
وكذلك قوله:
لولا انقطاع الوحي بعد محمد ** قلنا محمد بأبيه بديل

هو مثله في الفضل إلا أنه ** لم يأته برسالة جبريل

فصدر البيت الثاني في هذا الفصل شديد، لتشبيه غير النبي صلّى الله عليه وسلّم في فضله، والعجز محتمل لوجهين، أحدهما: أن هذه الفضيلة نقصت الممدوح، والآخر استغناؤه عنها، وهذه أشد ونحو منه قول الآخر:
وإذا ما رفعت راياتها ** صفقت بين جناحي جبرين

وقول الآخر من أهل العصر:
فر من الخلد واستجار بنا ** فصبر الله قلب رضوان

كقول حسان المصيصي من شعراء الأندلس في محمد بن عباد المعروف بالمعتمد ووزيره أبي بكر بن زيدون:
كأن أبا بكر أبو بكر الرضى ** وحسان حسان وأنت محمد

إلى أمثال هذا.
وإنما أكثرنا بشاهدها مع استثقالنا حكايتها، لتعرف أمثلتها، ولتساهل كثير من الناس في ولوج هذا الباب الضنك، واستخفافهم فادح في هذا العبء وقلة علمهم بعظيم ما فيه من الوزر وكلامهم فيه بما ليس لهم به علم، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ الله عَظِيمٌ} [24: 15]، لاسيما الشعراء، وأشدهم فيه تصريحا، وللسانه تسريحا، ابن هانئ الأندلسي وأبي سليمان المغربي، بل قد خرج كثير من كلامهم إلى حد الاستخفاف، والنقص، وصريح الكفر.
قال: فإن هذه كلها، وإن لم تتضمن سبا ولا أضافت إلى الملائكة والأنبياء نقصا ولست أعنى عجزي بيتي المعري، ولا قصد قائلها إزراء وغضبا، فما وقر النبوة، ولا عظم الرسالة، ولا عزر حرمة الاصطفاء، ولا عزر حظوة الكرامة، حتى شبه من شبه في كرامة نالها، أو معرة قصد الانتفاء منها، أو ضرب مثل لتطييب مجلسه، أو إغلاء في وصف لتحسن كلامه بمن عظم الله تعالى خطره، وشرف قدره، وألزم توقيره وبره، ونهى عن جهر القول له، ورفع الصوت عنده، فحق هذا إن دري عنه القتل، الأدب والسجن، وقوة تعزيره، بحسب شنعة مقاله، ومقتضى قبح ما نطق به، ومألوف عادته لمثله، أو ندوره، وقرينة كلامه، أو ندمه على ما سبق منه، ولم يزل المتقدمون ينكرون مثل هذا ممن جاء به، وقد أنكر الرشيد على أبي نواس قوله:
فإن يك باق سحر فرعون فيكم ** فإن عصا موسى بكف خصيب

قال له: يا بن اللخناء، أنت المستهزئ بعصا موسى؟ وأمر بإخراجه عن عسكره من ليلته.